مرافعة حول تنميط الشعوب

مرافعة حول تنميط الشعوب

عبدالعزيز البرتاوي

في نادٍ رياضي حديث، في قلب مدينة نيويورك، يتبع لسلسلة أندية شهيرة، تقابلني دائمًا، عجوز ستينية، بكامل “روجها”، وزينتها، وتعب سنينها. أنا هنا لأتمرّن، وهي لتنظّف. لا أدري أين ابنها، أو زوجها. أعرف أمرًا واحدًا، بسمتها الدائمة، لكل أحد، وعبوس تعبها، كل ما نهضت، من على الأرض، بعد مسح وقع أحذية الرياضييّن.

في النادي الذي قبله، كانت امرأة أصغر منها، تعمل في التنظيف أيضًا. وفي الناديين: كان دور الاستقبال، لفتيات حلوات، والشبّان في التمرين.

تحضر العجوز الآن، عجوز أخرى، وأنا في معمعة محطة مترو في نيويورك. متعبة، لا أحد يشاطرها نوء حقائبها، وليس من أحد يفكر بالقيام من كرسيه، لتجلس. هنا نيويورك، عالم المال والشباب والحداثة، رغم أن أعتى بناءاتها وجسورها وبناها التحتية، تعود لقرن منصرم، وقدامة قبيحة بعض  الشيء، وطرق مجدورة، تذكرني بجدة، “المدينة التي خرج منها بن لادن”.

أمريكا الآن، تنخرها الحداثة المعطلة. “لا مكان للعجائز في هذه البلدة”. الملاجيء تحكي حكاية لا تنتهي. القطارات القديمة –التي تُغضب تشومسكي-، الجسور الصدئة. البلدان التي تحمل من التاريخ، أكثر مما يحملها من الحاضر.

وضعت العجوز حقائبها جواري، وأنا منهمك بمطالعة المقطع المجتزء من فيلم “رحلتي إلى القاعدة”، عن الحياة في السعودية، للورانس رايت، الصحفي المهتم بالشرق الأوسط، والذي كسب شهرة كبيرة، من العمل فيه وعليه وعنه. حاز جائزة بوليتزر، عن كتابه عن القاعدة. وكتابه عن كامب ديفيد يتصدر المبيعات هذا العام، كما تقول الصحافة التي هو أحد أساطين تسويقها.

أمضي الآن إلى محطة مترو أخرى. الكل هنا يلهث. هذه قطعان لاهثة، نحو عالم البزنس. لا حميمية في الصداقة هنا، إن لم تكن مبنية على المصلحة. حتى على مستوى الفتاة الأمريكية، قال لي صديق “إيراني” –والحق ما شهدت به الأصدقاء- يقيم هنا من ثلاث سنوات، في أول دروس العلاقة في أميركا مازحًا: بقدر ما لديك من نقود، بقدر ما لديك من فتيات.

يقول لورانس: “في دراسة جامعية سعودية، أحصت نسبة اكتئاب الرجال، فوق الستين بالمئة، ونسبة اكتئاب النساء فوق  السبعين بالمئة”. في السعودية بالطبع. لورانس يعرف أن اكتئاب السعودية، مهما بلغ في مبالغاته، يظل مترابطًا، في مجتمع متدين، كان دينه هذا، أحد النقاط التي كرّس لها لورانس فيلمه، متجاهلًا أن ما يحميه من أن يتحول لنسخة مجتمع أمريكي، ليس منوّمًا فحسب، بل ميّتًا بما لا يدعو للطم جنازته، في إباحيّة كاملة، تشمل الإدمان والجريمة والجنس وبيع السلاح والمخدرات والرعب والتفكك الأسري. الخلاصة: الشارع الأمريكي العادي: +21.

في كل مرة، يتم إيقاف شخص من قبل شرطة الطريق، يكون الهاجس الأول لدى رجل الأمن، معرفة ما إذا كان سكرانًا. إن هذا لا يحدث في السعودية، بلد “الهيئات”، والنساء اللواتي لا يجدن إلا السوق ملجئًا. وهذا ليس دفاعًا، لا عن حكومة مجرمة في حق شعبها، نهبًا وإذلالًا وسرقة مقدرات واعتقالات وحرمان جموع كبيرة من كل وسائل الرفاه والحياة الحقيقية المواكبة لعالم متغير، ولا عن جهاز الهيئة، المسخّر بيد وليّ الأمر نفسه، لكنه يعتبر ردًا على لورانس، الذي يعرف أن الأمريكي آخر من يدخل متاحف بلاده، أو يزور تماثيلها المنصوبة للسياح، أو يطالع ثقافة العالم، أو يقرأ حضاراته. الأمريكي الذي يعتبر أن كل مدينة لا يعرفها في بلدك، هي في ولاية مجاورة له، والمشغول باللهاث، خلف آخر دولار يمكن تحصيله قبل القيامة. والذي إن لم يكن لاهثًا في بلده، كان مرتزقًا للقتال، في جبهة آمنة من جبهات الكرة الأرضية الأم، محيلًا إياها بعد سنين من الهول والرعب، إلى مسرح إرهاب ونار وداعش وجريمة.

وقع صحافي بوليتزر، في فخ الاستعلاء. جمع جمهورًا يصفق مع كل ظرافة يقولها على شعب، يقاسي حكومته، ويقاسي تندر المستشرقين، الذين يأتون، ليكتبوا كما قال “منيف”، عن النادر الغرائبي والعجائبي، وما يُضحك جمهوره، وما يطلبه متتبعو غرائب العالم، ومآسيه. لم يعد من إدوراد سعيد، ليدافع عنا. يتناقل الشبان السعوديون المقطع، على كونه متحدثًا صادقًا عمّا يجري في بلادهم، وهو كذلك، لولا أن صدقه مقصور ومحصور على الزواية التجارية الغرائبية الاستخباراتية التي تعنيه. زاوية الأكثر مبيعًا، وتهكمًا، وانعدامًا إخلاقيّا. زواية إلصاق كل المعائب والتشدد، بالدين والحجاب وما بينهما. ونسيان زوايا الإذلال الحقيقيّ والحروب والاعتقال والكوارث الفسادية التي لا يمتّ لها رجال الهيئة ولا الدين بسبب.

هذا الشعب، ليس دجاجًا منوّمًا، ولا يمتّ له دجاج ابن عمّك بنسب. كما أن الشعب الأمريكي، ليس قطيع خنازير لاهثة، نحو حضائر المال. ويمكنك عنونة المقال ب: رحلتي إلى الحضيرة، إن شاءت لك مهنية البوليتزر. الشعب الأمريكي، لديه قلة تعرف أن كثيرًا من خراب هذا العالم العربي، هو عائد لسلطات كبرى، تجرجره من ساحة حرب حقيقية، لساحة سلام وهمية، وما موضوع القاعدة، التي قعد لورانس وقام وهو يكتب ويتسترزق من خلفها، ولا حرب العراق المخرَّب، ولا مسرحية داعش، التي ربما يكون مقالي هذا، فاصلًا أحمقًا، للسيد لورانس، عن كتابه القادم عنها، ببعيد.

في الثمان دقائق، المجتزأة من فيلم لورانس، عن القاعدة، والتي تخصّ “المجتمع” السعودي، كانت إشكالية “حجاب” المرأة، علامة صارخة لمهنيته. هو لم ينتج فيلمه لمشاهدين سعوديين. هو جاء ليحكي عن أشياء تذكره بمجموعات دجاج ابن عمه المنوّم مغناطيسيًا، كاسرًا أعناق الحقائق والدجاج، أمام جمهور يضحك لظرافته، وهو يكرر رفضه الاستعلائي، لموضوع الحجاب، مشهرًا بصديقته الرافضه خلعه، بل ومعتبرًا عدم خلعه “تحديًا” شخصيًا له، وهي في بلدها، وقيمها، ودينها، وبين أهلها. بينما هو الغريب الطارئ الذي أذل نفسه، على ما زعم عامًا، حتى حصل على إذن دخول بصورة ما، ضاربًا عرض الحائط بقيم الأديان الأخرى، بمدى التقاليد والعادات لشعوب بعيدة عنه وعن عريّ نساء بلده، وعن تعب العجوز العاملة في تنظيف أرضية صالة رياضية آخر الليل، بمدى تفهمه لما تكونه “خصوصية” الناس، وطبيعة حياة وعوالم، ليست مبنية على لهاث الميديا، وسعار الدولار.

لم يحترم لورانس، حق الضيافة. جاء مدوّنًا “معائب” شعب لا يمتّ له بشيء، سوى بصلة الدولار المتناصف سرقته بين حكومته وحكومة لورانس، ورحل ليبحث عن فيزة بلد آخر.

في قضية حادثة حريق مدرسة مكة. يعلق لورانس بتهكم على “المطوّع” الذي أودى بقرار من لحية سعادته، إلى مقتل 15 فتاة، وجرح خمسين أخرى. وكأن “المطوّع” من عطّل كتابة قانون، يعرف به حارس المدرسة “المستأجرة” ممن يستمدّ أوامر عمله، في بلد ارتجالي. نسي لورانس هذا، وصوّبت كاميرته، التي مرّت عابرة على أن لا مخارج طواريء ولا تدريبات إخلاء، فوّهتها على لحية “المطوّع” الذي روع المدينة المقدسة، بغلاظته، وقسوته. ناسيًا قتلى كثيرين، في معمعات فساد بلادي، ومتاهات كوارثها المنسية، لكن كانت هذه الحادثة، خادمة للجانب الارتزاقي لفيلمه، وتحمّل من يمتّ إلى الدين، بصلة شكلية، مسؤولية حرق الطفولة، ويكفي أن تعرف كيف تؤثر القصة في جمهور أمريكي، فاقد للعاطفة، وكيف ترسم له صورة الإسلام.

في السوق أيضًا، لا يتحدث لورانس، عن جانب أن لا ضرائب هنا، مثل بلده اللص الذي يثقل كاهل اللاهثين هناك، ولا عن مدى انتشار الموضة الأمريكية، ولا حداثة السوق أو عتاقته، قدر ما تلفته، وتلفت صاحبه السعودي غير الأمين، أجساد مغطاة بالسواد، ويضحك الصحفيّ، ويصوّر، وينشر الصور، وإن لم تكن تفيد أو تدل بسوادها، على أمر سوى سواد اللامهنية، ويضحك الجمهور الأمريكي، على أم ما، أخت وابنة وزوجة، صادفت وجودّ صحفيّ “متحضّر”، جاء يعرض مهنيته، على بلاط السوق. إنه لمن المسيء اللاحضاريّ، أن تصبح المرأة في  أي بلد كان، بلباسها، أو اختيارها الدينيّ، أو بمعاناتها، أراجوز إضحاك، في فيلم وثائقي، يعرض في بلاد اللاهثين.

لدى لورانس، الذي كان واضحًا، في توجيه سبابة التهم إلى حكومة طاغية، إشكالية مع قيم الإسلام. نظرة استعلائية استشراقية. تهكم واضح على أصدقائه الصحفيين، الذين جاء ليعلّمهم المهنية في جدة، التي لم يسلم شارع فيها، ولا مبنى من التعيير بأن بن لادن خرج منه، وباعتبار بن لادن قاتلًا، أي سوء تحمّله لمدينة حالمة على بحر وادعٍ، تعاني أمرّ الفساد، لتكون صورة بن لادن ماثلة بين عيني المهنيّ الأمريكي، وكأن أمريكا لم تُخرج أكبر قطعان القتلة والسفّاحين والجزارين، على مرّ التاريخ، ولم تعدم مدنًا بأكملها، وتبيد أرتالًا من أطفال العراق وفيتنام وافغانستان وباكستان واليابان وكوبا واليمن، وأتعب لأعدد البلدان التي طالها قتل هذا البلد الآلة اللاهث، وحين تعب صار يقتل بطائرات دون طيّار. ويرسل لنا بين الفينة والآخر، أراجوزًا، يكتب عن استيائه من تحدي نجلاء، الصحفية السعودية التي لم تخلع حجابها في حضرة الصحفي المعلم الكبير، منوّر هذه القطعان، وكاشف وبائها للعالم، والذي يبدو أنه من تعرّى، وألقى عنه حجاب المهنية والأخلاق.

سيد لورانس، أعترف لك مستاءً، ليس لدي سينما، ولا متاحف، ولا تماثيل في الشوارع، ولا وسائل تسلية أو ترفيه في جدة. لكني الآن في نيويورك، أجد كل هذا: كانتونات كاملة لأحدث أمراض وعاهات الإيدز والزهري والإدمان، وملاجيء لكبار السنّ من الآباء والأمهات الذين لم يبق أحد يواري رذالة عمرهم الأخير، ومباغٍ وافرة، ودور قمار، تسرق جوع الفقراء، لتراكم غنى الكبراء، وسلاح يباع في الشارع، إزاء أحدث مصانع السلاح، الذي يجرَّب على ظهور أطفال العالم، وأعلى نسب انتحار وجريمة، ولا يمكن أن أتجوّل ليلا، دون أخذ الحيطة من كل غريب، والتوقف لأي شرطي، تحت اشتباه السكر أو الإدمان.

أعترف لك أيضًا، هذا ليس دفاعًا، عن تراكمات فساد عظيم في بلادي، ليس دفاعًا عن خوفنا من البديل، أو التغيير، أو خوفنا من التفكير فيهما. هذا ليس دفاعًا عن طغيان صارخ، ونهب مقدرات أمّة، بنت الأمم التي بجورانا، بأقل منها، ما يستوقف التاريخ ليكتب عنه منذ الآن. هذا ليس دفاعًا، عن كآبتنا، ولا أمراضنا، ولا انعزالنا، لكنه في نفس الوقت، ردّ على “بلاك ووتر” حبريّة، ترتزق في مجال الميديا والصحافة والثقافة استشراقيًا، منشغلة بذكريات الدجاج المنوّم، عن ما يجري من حاضر موت وقتل في أبو غريب وغونتانامو وقواعد التعذيب في باكستان وأفغانستان والخليج، حيث لا ينوّم الرجال ولا الدجاج، بل يسحقون بالكامل، بغير رجعة.

يمكنني الذهاب إلى السوق في مدينة جدة، “التي خرج منها بن لادن”، لأوصل أمي إليه، أو أعيد أختي منه، بينما على السيد لورانس، إن مرّ عليه هذا المقال، أن يخبرني إن كان يعرف أين هي أمه، أو ابنته الآن.

________________
* بعض العبارات التعميمية، في ثنايا الموضوع، الذي يجيء كرد، على فيلم، تستحسن مشاهدته، قبل أو بعد القراءة، لا تعبر إلا عن محاكاة ساخرة، لمهنية الاحتقار، ولا يقصد بها مقتضى الحال، الذي يناوئه مقتضى المقال.

عدد المشاهدات : 1748

 

Tags: , , , , , , ,

 

شارك مع أصدقائك

One Comment